فصل: تفسير الآية رقم (97)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

‏{‏فِيهِ ءايات بينات‏}‏ كإهلاك من قصده من الجبابرة بسوء كأصحاب الفيل وغيرهم وعدم تعرض ضواري السباع للصيود فيه وعدم نفرة الطير من الناس هناك، وإن أيّ ركن من البيت وقع الغيث في مقابلته كان الخصب فيما يليه من البلاد فإذا وقع في مقابلة الركن اليماني كان الخصب باليمن، وإذا كان في مقابلة الركن الشامي كان الخصب بالشام؛ وإذا عم البيت كان في جميع البلدان وكقلة الجمرات على كثرة الرماة إلى غير ذلك وعدوا منه انحراف الطير عن موازاته على مدى الأعصار، وفيه كلام للمحدثين لأن منها ما يعلوه، وقيل‏:‏ لا يعلوه إلا ما به علة للاستشفاء، واعترض بأن العقاب علته لأخذ الحية، وقيل‏:‏ إن الطير المهدر دمها تعلوه والحمام مع كثرته لا يعلوه وبه جمع بعضهم بين الكلامين ومع هذا في القلب منه شيء فقد نقل بعض الناس أنه شاهد أن الطير مطلقاً تعلوه في بعض الأحايين والضمير المجرور عائد على ‏{‏البيت‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 96‏]‏، والظرفية مجازية وإلا لما صح عدّ هذه الآيات، والجملة إما مستأنفة جىء بها بياناً وتفسيراً للهدى، وإما حال أخرى ولا بأس في ترك الواو في الجملة الاسمية الحالية على ما أشار إليه عبد القاهر وغيره، وجوز أن تكون حالاً من الضمير في العالمين والعامل فيه هدى، أو من الضمير في ‏{‏مُبَارَكاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 96‏]‏ وهو العامل فيها، أو يكون صفة لهدى كما أن العالمين كذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّقَامِ إبراهيم‏}‏ مبتدأ محذوف الخبر أو خبر محذوف المبتدأ أي منها أو أحدها مقام إبراهيم، واختار الحلبي الأخير، وقيل‏:‏ بدل البعض من الكل وإليه ذهب أبو مسلم، وجوز بعضهم أن يكون عطف بيان وصح بيان الجمع بالمفرد بناءاً على اشتمال المقام على آيات متعددة لأن أثر القدمين في الصخرة الصماء آية وغوصهما فيها إلى الكعبين آية وإلانة بعض هذا النوع دون بعض آية وإبقاؤه على ممر الزمان آية وحفظه من الأعداء آية أو على أن هذه الآية الواحدة لظهور شأنها وقوة دلالتها على قدرة الله تعالى ونبوة إبراهيم عليه السلام منزلة منزلة آيات كثيرة، وأيد ذلك بما أخرجه ابن الأنباري عن مجاهد أنه كان يقرأ فيه آية بينة بالتوحيد، وفيه أن هذا وإن ساغ معنى إلا أنه يرد عليه أن ‏{‏ءايات‏}‏ نكرة، و‏{‏مَّقَامِ إبراهيم‏}‏ معرفة، وقد صرح أبو حيان أنه لا يجوز التخالف في عطف البيان بإجماع البصريين والكوفيين، ثم إن سبب هذا الأثر في هذا المقام ما ورد في الأثر عن سعيد بن جبير أنه لما ارتفع بنيان الكعبة قام على هذا الحجر ليتمكن من رفع الحجارة فغاصت فيه قدماه وقد تقدم غير ذلك في ذلك أيضاً‏.‏

‏{‏وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً‏}‏ الضمير المنصوب عائد إلى ‏{‏مَّقَامِ إبراهيم‏}‏ بمعنى الحرم كله على ما قاله ابن عباس لا موضع القدمين فقط، ويمكن أن يكون هناك استخدام، وقال الجصاص‏:‏ «أورد الآيات المذكورات في الحرم، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَن دَخَلَهُ‏}‏ الخ فيجب أن يكون المراد جميع الحرم»، والجملة إما ابتدائية وليست بشرطية وإما شرطية عطف كما قال غير واحد من حيث المعنى على ‏{‏مَّقَامِ‏}‏ لأنه في المعنى أمْنُ مَنْ دخله أي ومنها أو ثانيها أمْنُ مَن دخله أو فيه آيات مقام إبراهيم وَأمْنُ مَن دخله وعلى هذا لا حاجة إلى ما تكلف في توجيه الجمعية لأن الآيتين نوع من الجملة كالثلاثة والأربعة، ويجوز أن يذكر هاتان الآيتان ويطوي ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات، ومثل هذا الطي واقع في الأحاديث النبوية والأشعار العربية، فالأول‏:‏ كرواية «حبب إليَّ من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة» على ما هو الشائع وإن صححوا عدم ذكر ثلاث، وأما الثاني‏:‏ فمنه قول جرير‏:‏

كانت حنيفة ‏(‏أثلاثاً‏)‏ فثلثهم *** من العبيد ‏(‏وثلث من مواليها‏)‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ إما للعقلاء أو لهم ولغيرهم على سبيل التغليب لأنه يأمن فيه الوحش والطير بل والنبات فحينئذٍ يراد بالأمن ما يصح نسبته إلى الجميع بضرب من التأويل، وعلى التقدير الأول يحتمل أن يراد بالأمن الأمن في الدنيا من نحو القتل والقطع وسائر العقوبات، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية أنه قال‏:‏ كان الرجل في الجاهلية يقتل الرجل ثم يدخل الحرم فيلقاه ابن المقتول أو أبوه فلا يحركه‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابنه أنه قال‏:‏ لو وجدت قاتل عمر في الحرم ما هجته؛ وعن ابن عباس لو وجدت قاتل أبي في الحرم لم أتعرض له، ومذهبه في ذلك أن من قتل أو سرق في الحل ثم دخل الحرم فإنه لا يجالس ولا يكلم ولا يؤذى ولكنه يناشد حتى يخرج فيؤخذ فيقام عليه ما جرّ فإن قتل أو سرق في الحرم أقيم عليه في الحرم والروايات عنه في ذلك كثيرة وقد تقدم تفصيل الأقوال في المسألة، وأما أن يراد به كما ذهب إليه الصادق رضي الله تعالى عنه الأمن في الآخرة من العذاب، فقد أخرج عبد بن حميد وغيره عن يحيى بن جعدة أن من دخله كان آمناً من النار، وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من دخل البيت دخل في حسنة، وخرج من سيئة مغفوراً له ‏"‏

، وروي من غير طريق عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «من مات في أحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة»، وفي رواية عن ابن عمر قال‏:‏ من قبر بمكة مسلماً بعث آمناً يوم القيامة، ويجوز إرادة العموم بأن يفسر بالأمن في الدنيا والآخرة ولعله الظاهر من إطلاق اللفظ‏.‏

‏{‏وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت‏}‏ جملة ابتدائية المبتدأ فيها ‏{‏حَجَّ‏}‏ والخبر لله وعلى الناس متعلق بما تعلق به الخبر أو بمحذوف وقع حالاً من المستتر في الجار والمجرور والعامل فيه الاستقرار‏.‏ وجوز أن يكون ‏{‏عَلَى الناس‏}‏ خبراً، ولله متعلق بما تعلق به، ولا يجوز أن يكون حالاً من المستكن في الناس لأن العامل في الحال حينئذٍ يكون معنى، والحال لا يتقدم على العامل المعنوي عند الجمهور، وجوزه ابن مالك إذا كان الحال ظرفاً أو حرف جر وعامله كذلك بخلاف الظرف وحرف الجر فإنهما لا يتقدمان على عاملهما المعنوي، وجوز أن يرتفع الحج بالجار الأول أو الثاني وهو في اللغة مطلق القصد أو كثرته إلى من يعظم، والمراد به هنا قصد مخصوص غلب فيه حتى صار حقيقة شرعية، وأل في البيت للعهد، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص ‏{‏حَجَّ‏}‏ بالكسر كعلم وهو لغة نجد‏.‏

‏{‏مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً‏}‏ بدل من الناس بدل البعض من الكل والضمير في البدل مقدر أي منهم، وقيل‏:‏ بدل الكل من الكل، والمراد من ‏{‏الناس‏}‏ خاص ولا يحتاج إلى ضمير، وقيل‏:‏ خبر لمحذوف أي هم من استطاع أو الواجب عليه من استطاع وجوز أن يكون منصوباً بإضمار فعل أعني وأن يكون فاعل المصدر وهو مضاف إلى مفعوله أي ولله على الناس أن يحج من استطاع منهم البيت وفيه مناقشة مشهورة، و‏{‏مِنْ‏}‏ على هذه الأوجه موصولة‏.‏ وجوز أن تكون شرطية والجزاء محذوف يدل عليه ما تقدم، أو هو نفسه على الخلاف المقرر بين البصريين والكوفيين ولا بد من ضمير يعود من جملة الشرط ‏{‏عَلَى الناس‏}‏ والتقدير من استطاع منهم إليه سبيلاً فللَّه عليه أن يحج، ويترجح هذا بمقابلته بالشرط بعده، والضمير المجرور للبيت أو للحج لأنه المحدث عنه، وهو متعلق بالسبيل لما فيه من معنى الإفضاء وقدم عليه للاهتمام بشأنه‏.‏

والاستطاعة في الأصل استدعاء طواعية الفعل وتأتيه، والمراد بالاستدعاء الإرادة وهي تقتضي القدرة فأطلقت على القدرة مطلقاً أو بسهولة فهي أخص منها وهو المراد هنا، وسيأتي تحقيقه قريباً إن شاء الله تعالى، والقدرة إما بالبدن أو بالمال أو بهما، وإلى الأول‏:‏ ذهب الإمام مالك فيجب الحج عنده على من قدر على المشي والكسب في الطريق، وإلى الثاني‏:‏ ذهب الإمام الشافعي ولذا أوجب الاستنابة على الزمن إذا وجد أجرة من ينوب عنه، وإلى الثالث‏:‏ ذهب إمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه، ويؤيده ما أخرجه البيهقي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال‏:‏ السبيل أن يصح بدن العبد ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يجحف به‏.‏

واستدل الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه بما أخرجه الدارقطني عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ «لما نزلت هذه الآية ‏{‏وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً‏}‏ قام رجل فقال‏:‏ يا رسول الله ما السبيل‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ الزاد والراحلة ‏"‏ وروي هذا من طرق شتى وهو ظاهر فيما ذهب إليه الشافعي حيث قصر الاستطاعة على المالية دون البدنية، وهو مخالف لما ذهب إليه الإمام مالك مخالفة ظاهرة، وأما إمامنا فيؤول ما وقع فيه بأنه بيان لبعض شروط الاستطاعة بدليل أنه لو فقد أمن الطريق مثلاً لم يجب الحج عليه، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم لم يتعرض لصحة البدن لظهور الأمر كيف لا والمفسر في الحقيقة هو السبيل الموصل لنفس المستطيع إلى البيت وذا لا يتصور بدون الصحة، ومما يؤيد أن ما في الحديث بيان لبعض الشروط أنه ورد في بعض الروايات الاقتصار على واحد مما فيه، فقد أخرج الدارقطني أيضاً عن علي كرم الله تعالى وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن السبيل فقال‏:‏ ‏"‏ أن تجد ظهر بعير ولم يذكر الزاد ‏"‏

هذا واستدل بالآية على أن الاستطاعة قبل الفعل وفساد القول بأنها معه، ووجه الاستدلال ظاهر، وأجيب بأن الاستطاعة التي ندعي أنها مع الفعل هي حقيقة القدرة التي يكون بها الفعل وتطلق الاستطاعة على معنى آخر هو سلامة الأسباب والآلات والجوارح أي كون المكلف بحيث سلمت أسبابه وآلاته وجوارحه ولا نزاع لنا في أن هذه الاستطاعة قبل الفعل وهي مناط صحة التكليف وما في الآية بهذا المعنى كذا قالوا‏.‏ وتحقيق الكلام في هذا المقام على ما قالوا‏:‏ إن المشهور عن الأشعري أن القدرة مع الفعل بمعنى أنها توجد حال حدوثه وتتعلق به في هذه الحال ولا توجد قبله فضلاً عن تعلقها به، ووافقه على ذلك كثير من المعتزلة كالنجار ومحمد بن عيسى وابن الراوندي وأبي عيسى الوراق وغيرهم، وقال أكثر المعتزلة‏:‏ القدرة قبل الفعل وتتعلق به حينئذٍ ويستحيل تعلقها به قبل حدوثه، ثم اختلفوا في بقاء القدرة فمنهم من قال‏:‏ ببقائها حال وجود الفعل وإن لم تكن القدرة الباقية قدرة عليه ومنهم من نفاه، ودليلهم على ذلك وجوه‏:‏

الأول‏:‏ أن تعلق القدرة بالفعل معناه الإيجاد وإيجاد الموجود محال لأنه تحصيل الحاصل بل يجب أن يكون الإيجاد قبل الوجود ولهذا صح أن يقال‏:‏ أوجده فوجد، وأجيب بأن هذا مبني على أن القدرة الحادثة مؤثرة وهو ممنوع وعلى تقدير تسليمه يقال‏:‏ إيجاد الموجود بذلك الوجود الذي هو أثر ذلك الإيجاد جائز بمعنى أن يكون ذلك الوجود الذي هو به موجود في زمان الإيجاد مستنداً إلى الموجد ومتفرعاً على إيجاده، والمستحيل هو إيجاد الموجود بوجود آخر وتحقيقه أن التأثير مع حصول الأثر بحسب الزمان، وإن كان متقدماً عليه بحسب الذات وهذا التقدم هو المصحح لاستعمال الفاء بينهما‏.‏

الثاني‏:‏ إن جاز تعلق القدرة حال الحدوث يلزم القدرة على الباقي حال بقائه والتالي باطل، بيان الملازمة أن المانع من تعلق القدرة به ليس إلا كونه متحقق الوجود والحادث حال حدوثه متحقق الوجود أيضاً، وأجيب بأنا نلتزمه لدوام وجوده بدوام تعلق القدرة به أو نفرق بما يبطل به الملازمة من احتياج الموجود عن عدمه إلى المقتضى دون الباقي فلو لم تتعلق القدرة بالأول لبقي على عدمه وقد فرض وجوده هذا خلف، ولو لم تتعلق بالثاني لبقي على الوجود وهو المطابق للواقع، أو ننقض الدليل أولاً‏:‏ بتأثير العلم أو العالمية بالاتفاق فإن ذلك مشروط حال حدوث الفعل دون بقائه، وثانياً‏:‏ بتأثير الفعل في كون الفداعل فاعلاً فإنّ الفعل مؤثّر في ذلك حال الحدوث وبتقدير كون الفعل باقياً لا يؤثر حال البقاء، وثالثاً‏:‏ بمقارنة الإرادة إذ يوجبونها حال الحدوث دون البقاء فكذا الحال في القدرة‏.‏

 الثالث‏:‏ إن كون القدرة مع الفعل يوجب حدوث قدرة الله تعالى أو قدم مقدوره وكلاهما باطلان بل قدرته أزلية وتعلقها في الأزل بمقدوراته فقد ثبت تعلق القدرة بمقدوراتها قبل الحدوث ولو كان ممتنعاً في القدرة الحادثة لكان ممتنعاً في القدرة القديمة وليس فليس، وأجيب بأن القدرة القديمة الباقية مخالفة في الماهية للقدرة الحادثة التي لا يجوز بقاؤها عندنا فلا يلزم من جواز تقدمها على الفعل جواز تقدم الحادثة عليه ثم إن القديمة متعلقة في الأزل بالفعل تعلقاً معنوياً لا يترتب عليه وجود الفعل ولها تعلق آخر به حال حدوثه موجب لوجوده فلا يلزم من قدمها مع تعلقها المعنوي قدم آثارها‏.‏

الرابع‏:‏ إنه يلزم على ذلك التقدير أن لا يكون الكافر في زمان كفره مكلفاً بالإيمان لأنه غير مقدور له في تلك الحالة المتقدمة عليه بل نقول‏:‏ يلزم أن لا يتصور عصيان من أحد إذ مع الفعل لا عصيان وبدونه لا قدرة فلا تكليف، فلا عصيان، وأيضاً أقوى أعذار المكلف التي يجب قبولها لدفع المؤاخذة عنه هو كون ما كلف به غير مقدور له فإذا لم يكن قادراً على الفعل قبله وجب رفع المؤاخذة عنه بعدم الفعل المكلف به وهو باطل بإجماع الأمة، وأيضاً لو جاز تكليف الكافر بالإيمان مع كونه غير مقدور له فليجز تكليفه بخلق الجواهر والأعراض، وأجيب بأنه يجوز تكليف المحال عندنا فيلتزم جواز التكليف بالخلق المذكور، ولنا أن نفرق بأن ترك الإيمان إنما هو بقدرته بخلاف عدم الجواهر والأعراض فإنه ليس مقدوراً له أصلاً فلا يلزم من جواز التكليف بالإيمان جواز التكليف بخلقها، وبالجملة فكون الشيء مقدوراً الذي هو شرط التكليف عندنا أن يكون الشيء أو ضده متعلقاً للقدرة، وهذا حاصل في الإيمان لأن تركه لتلبسه بضده مقدور له حال كفره بخلاف إحداث الجواهر والأعراض فإنه غير مقدور له أصلاً لا فعلاً ولا تركاً فلا يجوز التكليف به، وأما ما ذكر من قضية الأعذار ووجوب قبولها فمبني على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين وقد أقيمت الأدلة على بطلانهما في محله كذا في «المواقف» و«شرحه»‏.‏

ودليل ما شاع عن الأشعري قيل‏:‏ هو أن القدرة عرض يخلقه الله تعالى في الحيوان يفعل به الأفعال الاختيارية فيجب أن تكون مقارنة للفعل بالزمان لا سابقة عليه وإلا لزم وقوع الفعل بلا قدرة لما برهن عليه من امتناع بقاء الأعراض؛ واعترض عليه بما في أدلة امتناع بقاء الأعراض من النظر القوي وأنه قد يقال على تقدير تسليم الامتناع المذكور لا نزاع في إمكان تجدد الأمثال عقيب الزوال فمن أين يلزم وقوع الفعل بدون القدرة‏؟‏ وأجيب بأنا إنما ندعي لزوم ذلك إذا كانت القدرة التي بها الفعل هي القدرة السابقة، وأما إذا جعلتموها المثل المتجدد المقارن فقد اعترفتم بأن القدرة التي بها الفعل لا تكون إلا مقارنة، ثم إن ادعيتم أنه لا بد لها من أمثال تقع حتى لا يمكن الفعل بأول ما يحدث من القدرة فعليكم البيان‏.‏ وفيه أن هذا قول بأن نفي وجود المثل السابق ليس داخلاً في دعوى الأشعري وهو خلاف ما علم مما تقدم في تقرير مذهبه، وذكر في «المواقف» دليلاً آخر للأشعري على ما ادعاه ونظر فيه أيضاً‏.‏

هذا كلامهم والحق عندي في هذه المسألة أن شرط التكليف هو القوة التي تصير مؤثرة بإذن الله تعالى عند انضمام الإرادة التابعة لإرادة الله تعالى لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏ وإيضاحه أنه تعالى كما أنه غني بالذات عن العالمين كذلك حكيم جواد وكما أن غناه الذاتي أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد كذلك مقتضى جوده ورحمته مراعاة ما اقتضته حكمته سبحانه كما أشار إليه العضد في «عيون الجواهر»، وأطال الكلام فيه أبو عبد الله الدمشقي في «شفاء العليل»‏.‏  ومن المعلوم أن الحكمة لا تقتضي أن يؤمر بالفعل من لا يقدر على الامتثال وينهى عنه من لا يقدر على الاجتناب فلا بد بمقتضى الحكمة التي رعاها سبحانه فيما خلق وأمر فضلاً ورحمة أن يكون التكليف بحسب الوسع وإذا كان كذلك كان شرط التكليف هو القوة التي تصير مؤثرة إذا انضم إليها الإرادة وهذه قبل الفعل، والقدرة التي هي مع الفعل هي القدرة المستجمعة لشرائط التأثير التي من جملتها انضمام الإرادة إليها، وبهذا جمع الإمام الرازي كما في «المواقف بين مذهب الأشعري القائل بأن القدرة مع الفعل، والمعتزلة القائلين بأنها قبله، وقال‏:‏ لعل الأشعري أراد بالقدرة القوة المستجمعة لشرائط التأثير فلذلك حكم بأنها مع الفعل وأنها لا تتعلق بالضدين، والمعتزلة أرادوا بالقدرة مجرد القوة العضلية فلذلك قالوا بوجودها قبل الفعل وتعلقها بالأمور المتضادة وهو جمع صحيح، وقول السيد قدس سره في توجيه البحث الذي ذكره صاحب «المواقف» فيه بأن القدرة الحادثة ليست مؤثرة عند الشيخ فكيف يصح أن يقال‏:‏ إنه أراد بالقدرة والقوة المستجمعة لشرائط التأثير مدفوع بما تبين في «الإبانة» التي هي آخر مصنفاته‏.‏

والمعتمد من كتبه كما صرح به ابن عساكر والمجد بن تيمية وغيرهما أن الشيخ قائل بالتأثير للقدرة المستجمعة للشرائط لكن لا استقلالاً كما يقوله المعتزلة بل بإذن الله تعالى وهو معنى الكسب عنده، وأما قوله في شرح المواقف»‏:‏ إن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى وحدها ليس لقدرتهم تأثير فيها بل الله تعالى أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختياراً فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارناً لهما فيكون فعل العبد مخلوقاً لله تعالى إبداعاً وإحداثاً ومكسوباً للعبد، والمراد بكسبه إياه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير ومدخل في وجوده سوى كونه محلاً له، وهو مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري، ففيه بحث من وجوه‏:‏

أما أولاً‏:‏ فلأن هذا ليس مذهب الشيخ المذكور في آخر تصانيفه التي استقر عليها الاعتماد وذكره في غيره إن سلم لا يعول عليه لكونه مرجوحاً مرجوعاً عنه وأما ثانياً‏:‏ فلأن التكليف في صرائح الكتاب والسنة إنما تعلق أمراً أو نهياً بالأفعال الاختيارية أنفسها لا بمقارنة القدرة والإرادة لها فمكسوب العبد نفس الفعل الاختياري، والمراد بكسبه إياه تحصيله إياه بتأثير قدرته بإذن الله تعالى لا مستقلاً، فالقول بأن المراد بكسب العبد للفعل هو مقارنة الفعل لقدرته وإرادته من غير تأثير لا يوافق ما اقتضاه صرائح الكتاب والسنة ونصوص «الإبانة»، ويزيده وضوحاً حديث أبي هريرة «أنه لما نزل ‏{‏وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 284‏]‏ اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب فقالوا‏:‏ يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها» الحديث فإنه صريح بأن الذي كلفوا به ما يطيقونه من نفس الأعمال وهو نفس الصلاة وأخواتها لا مقارنتها لقدرتهم وإرادتهم وأقرهم صلى الله عليه وسلم على ذلك وأما ثالثاً‏:‏ فلأن مقارنة الفعل لقدرة العبد وإرادته لو كانت هي الكسب لكانت هي المكلف بها ولو كانت كذلك لكان التكليف بما لا يطاق واقعاً لأن المقارنة أمر يترتب على فعل الله تعالى أي على إيجاد الله تعالى الفعل الاختياري مقارناً لهما وما يترتب على فعل الله تعالى ليس مقدوراً للعبد أصلاً لأن معنى كون الشيء مقدوراً له أن يكون ممكن الإيقاع بقدرته عند تعلق مشيئته به الموافقة لمشيئة الله تعالى كما هو واضح من حديث

‏"‏ من كظم غيظه وهو قادر على أن ينفذه ‏"‏ وما يترتب على فعل الله تعالى لا يكون مقدوراً للعبد بهذا المعنى إذ لو كان مقدوراً له ابتداءاً لزم أن لا يكون مترتباً على فعل الله تعالى أو بواسطة لزم أن يكون فعل الله تعالى المترتب عليه هذا مقدوراً للعبد واللازم باطل بشقيه بعد القول بنفي التأثير أصلاً فكذا الملزوم وأما رابعاً‏:‏ فلأن المقارنة لكونها مترتبة على فعل الله تعالى لا تختلف بالنسبة إلى العبد صعوبة وسهولة فلو كانت هي المكلف بها لاستوى بالنسبة إلى العبد التكليف بأشق الأعمال والتكليف بأسهلها مع أن نص الكتاب التكليف بحسب الوسع ونص السنة أن المملوك لا يكلف إلا ما يطيق شاهدان على التفاوت كما أن البديهة تشهد بذلك، واعترض هذا من وجوه الأول‏:‏ أن القول بأن من المعلوم أن الحكمة لا تقتضي أن يؤمر بالفعل من لا يقدر على الامتثال يقتضي أن أفعال الله تعالى وأحكامه لا بدّ فيها من حكمة ومصلحة وهو مسلم لكن لا نسلم أنه لا بدّ أن تظهر هذه المصلحة لنا إذ الحكيم لا يلزمه اطلاع من دونه على وجه الحقيقة كما قاله القفال في «محاسن الشريعة» وحينئذٍ فما المانع من أن يقال هناك مصلحة لم نطلع عليها، ويجاب بأنا لم ندع سوى أن الله تعالى قد راعى الحكمة فيما أمر وخلق تفضلاً ورحمة لا وجوباً وهذا ثابت بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏صُنْعَ الله الذى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 88‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَحْسَنَ كُلَّ شَىْء خَلَقَهُ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 7‏]‏ وبالإجماع المعصوم عن الخطأ بفضل الله تعالى وإن مقتضى الحكمة أن لا يطلب حصول شيء إلا ممن يتمكن منه ويقدر عليه كما تشهد له النصوص ولم ندع وجوب ظهور وجه الحكمة في جميع أفعاله وأحكامه ولا ما يستلزم ذلك وبيان وجه الحكمة لحكم واحد لا يستلزم دعوى الكلية ويؤول هذا إلى أن الله تعالى أطلعنا على الحكمة في هذا مع عدم وجوب الاطلاع عليه‏.‏

والثاني‏:‏ أن القول بأن التكليف في صرائح الكتاب والسنة إنما تعلق الخ فيه أنه ليس المراد مطلق المقارنة بل المقارنة على جهة التعلق فالكسب عبارة عن تعلق القدرة الحادثة بالمقدور من غير تأثير كما في عبارة غير واحد، فالأوامر والنواهي متعلقة بالأفعال التي هي اختيارية في الظاهر باعتبار هذا التعلق الذي لا تأثير معه وادعاء أنها صرائح في التعلق مع التأثير ممنوع بل هي محتملة ولو سلم أنها ظاهرة في التأثير، فالظاهر قد يعدل عنه لدليل خلافه، والقول بأنا لا نفهم من تعلق القدرة إلا تأثيرها وإلا فليست بقدرة، فكيف يثبت للقدرة تعلق بلا تأثير سؤال مشهور وجوابه‏:‏ ما في «شرح المواقف» وغيره من أن التأثير من توابع القدرة، وقد ينفك عنها ويجاب بأن تفسير الكسب بالتعلق الذي لا تأثير معه مراداً به التحصيل بحسب ظاهر الأمر فقط مصادم للنصوص الناطقة بأن العبد متمكن من إيجاد أفعاله الاختيارية بإذن الله تعالى، ولا دليل على خلافه يوجب العدول، و

‏{‏الله خالق كُلّ شَىْء‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 16‏]‏ لا ينافي التأثير بالإذن على أن تعلق القدرة تابع للإرادة وتعلقها على القول بنفي التأثير بالكلية غير صحيح كما يشير إليه كلام الجلال الدواني في بيان مبادىء الأفعال الاختيارية، ويوضحه كلام حجة الإسلام الغزالي في كتاب التوحيد والتوكل من «الإحياء»، وأما ما في «شرح المواقف» وغيره من أن التأثير قد ينفك عن القدرة فنحن نقول به إذ ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن وإنما الإنكار على نفي التأثير بالكلية عن القدرة الحادثة والاستدلال بما ذكره حجة الإسلام في «الاقتصاد» من أن القدرة الأزلية متعلقة في الأزل بالحادث ولا حادث فصح التعلق ولا تأثير، ويجوز أن تكون القدرة الحادثة كذلك مجاب عنه بأن القدرة لا تؤثر إلا على وفق الإرادة والإرادة تعلقت أزلاً بإيجاد الأشياء بالقدرة في أوقاتها اللائقة بها في الحكمة فعدم تأثيرها قبل الوقت لكونها مؤثرة على وفق الإرادة لا مطلقاً فلا يجب تأثيرها قبل الوقت ويجب تأثيرها فيه والقدرة الحادثة على القول بنفي تأثيرها بالكلية لا يصدق عليها أنها تؤثر وفق الإرادة فلا يصح قياسها على القديمة‏.‏  والحاصل‏:‏ إن كل تعلق للقديمة على وفق الإرادة لا ينفك عنه التأثير في وقته بخلاف الحادثة فإنه لا تأثير لها أصلاً على القول بنفي التأثير عنها كليّاً فلا تعلق لها بالتأثير على وفق الإرادة‏.‏

والثالث‏:‏ أن القول في الاعتراض الثالث أنه لو كانت كذلك لكان التكليف بما لا يطاق واقعاً الخ يقال عليه‏:‏ نلتزم وقوعه عند الأشعري ولا محذور فيه، ويجاب بأنه قد حقق في موضعه أن الإمام الأشعري لم ينص على ذلك ولا يصح أخذه من كلامه فالتزام وقوعه عنده التزام ما لم يقل به لا صريحاً ولا التزاماً‏.‏ والقول بأنه لا محذور فيه إنما يصح بالنظر إلى الغنى الذاتي وأما بالنظر إلى أنه تعالى جواد حكيم فالتزامه مصادمة للنص وأي محذور أشنع من هذا‏.‏

والرابع‏:‏ أن القول هناك أيضاً أن المقارنة لو كانت هي الكسب لكانت هي المكلف بها غير لازم فإن الكسب يطلق على المعنى المصدري ويطلق على المفعول أي المكسوب وهو نفس الأمر لا الكسب بمعنى المقارنة أو تعلق القدرة الحادثة بالفعل فمعنى كسب تعلقت قدرته بالفعل، وإن شئت قلت‏:‏ قارنت قدرته الفعل فكان الفعل مكسوباً وهو المكلف به، ويجاب بأن الكسب الحقيقي الوارد في الكتاب والسنة معناه تحصيل العبد ما تعلقت به إرادته التابعة لإرادة الله تعالى بقدرته المؤثرة بإذنه وإن مكسوبه ما حصله بقدرته المذكورة فمعنى كون الفعل المكسوب مكلفاً به هو أن العبد المكلف مطلوب منه تحصيله بالكسب بالمعنى المصدري لأن المكسوب هو الحاصل بالمصدر فإذا كان المكسوب مكلفاً به كان الكسب بالمعنى المصدري مكلفاً به قطعاً لامتناع حصول المكسوب من غير قيام المعنى المصدري بالمكلف ضرورة انتفاء الحاصل بالمصدر عند انتفاء قيام المصدر بالمكلف فظهرت الملازمة في الشرطية‏.‏

والخامس‏:‏ إن القول في الاعتراض أن المقارنة لكونها أمراً مترتباً على فعل الله تعالى لا تختلف الخ، فيه أمران‏:‏ الأول‏:‏ أنا لا نسلم التلازم بين كون المقارنة هي المكلف بها وبين عدم الاختلاف وأيّ مانع من أن تكون مختلفة باعتبار أحوال الشخص عندها فتارة يخلق الله تعالى فيه صبراً وعزماً وتارة جزعاً وفتوراً إلى غير ذلك مما يرجع إلى سلامة البنية ومقابله أو غيرهما من الأعراض والأحوال التي يخلقها الله تعالى ويصرف عبده فيها كيف شاء مما يوجب ألماً أو لذة‏.‏ الثاني‏:‏ إن ما ذكرتموه مشترك الإلزام إذ يقال إذا كانت قدرة العبد مؤثرة بإذن الله تعالى فبأي وجه وقع الاختلاف حتى كان هذا سهلاً وهذا صعباً وكلاهما مقدور وهما متساويان في الإمكان‏.‏

ويجاب أما عن الأول‏:‏ بأن التلازم بين كونها مترتبة على فعل الله تعالى وبين عدم اختلافها متحقق لأنها إذا كانت الكسب بالمعنى المصدري كانت تحصيلاً للمكسوب والتحصيل لكونه قائماً بالمكلف تتفاوت درجاته صعوبة وسهولة قطعاً ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب» والمقارنة لكونها أمراً مرتباً على فعل الله تعالى ليست قائمة بالعبد فلا تتفاوت بالنسبة إليه أصلاً، والإيراد بتجويز اختلافها بكون بعضها بخلق الله تعالى عنده صبراً في العبد الخ خارج عن المقصود لأن العبارة صريحة في أن المقصود عدم اختلافها بالنسبة إلى العبد صعوبة وسهولة لا مطلق الاختلاف، وأما عن الثاني‏:‏ فبأنه قد دلت النصوص على تفاوت درجات القوة والبطش كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 82‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 21‏]‏ وقوله عز شأنه‏:‏

‏{‏فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 8‏]‏ وباختلاف درجات ذلك في الأقوياء التابع لاستعداداتهم الذاتية الغير المجعولة وقع الاختلاف في الأعمال صعوبة وسهولة، هذا ما ظفرنا به من تحقيق الحق من كتب ساداتنا قدس الله تعالى أسرارهم وجعل أعلى الفردوس قرارهم، وإنما استطردت هذا المبحث هنا مع تقدم إشارات جزئية إلى بعض منه لأنه أمر مهم جداً لا تنبغي الغفلة عنه فاحفظه فإنه من بنات الحقاق لا من حوانيت الأسواق، والله تعالى الموفق لا رب غيره‏.‏

‏{‏وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين‏}‏ يحتمل أن يراد بمن كفر من لم يحج وعبر عن ترك الحج بالكفر تغليظاً وتشديداً على تاركه كما وقع مثل ذلك فيما أخرجه سعيد بن منصور وأحمد وغيرهما عن أبي أمامة من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من مات ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه مرض حابس أو سلطان جائر أو حاجة ظاهرة فليمت على أي حالة شاء يهودياً أو نصرانياً ‏"‏ ومثله ما روي بسند صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فلينظروا كل من كان له جدة فلم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين، ويحتمل إبقاء الكفر على ظاهره بناءاً على ما أخرج ابن جرير وعبد بن حميد وغيرهما عن عكرمة «أنه لما نزلت ‏{‏وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 85‏]‏ الآية قال اليهود‏:‏ فنحن مسلمون فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله تعالى فرض على المسلمين حج البيت فقالوا لم يكتب علينا وأبوا أن يحجوا فنزل ‏{‏وَمَن كَفَرَ‏}‏» الآية‏.‏ ومن طريق الضحاك أنه لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الملل مشركي العرب والنصارى واليهود والمجوس والصابئين فقال‏:‏ إن الله تعالى قد فرض عليكم الحج فحجوا البيت فلم يقبله إلا المسلمون وكفرت به خمس ملل قالوا‏:‏ لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نستقبله فأنزل الله سبحانه ‏{‏وَمَن كَفَرَ‏}‏ الخ وإلى إبقائه على ظاهره ذهب ابن عباس، فقد أخرج البيهقي عنه أنه قال في الآية‏:‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ‏}‏ بالحج فلم ير حجه براً ولا تركه مأثماً، وروى ابن جرير أن الآية لما نزلت قام رجل من هذيل فقال‏:‏ يا رسول الله من تركه كفر‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ من تركه لا يخاف عقوبته ومن حج لا يرجو ثوابه فهو ذاك ‏"‏، وعلى كلا الاحتمالين لا تصلح الآية دليلاً لمن زعم أن مرتكب الكبيرة كافر، و‏{‏مِنْ‏}‏ تحتمل أن تكون شرطية وهو الظاهر وأن تكون موصولة، وعلى الاحتمالين استغنى فيما بعد الفاء عن الرابط بإقامة الظاهر مقام المضمر إذ الأصل فإن الله غني عنهم‏.‏

ويجوز أن يبقى الجمع على عمومه ويكتفى عن الضمير الرابط بدخول المذكورين فيه دخولاً أولياً والاستغناء في هذا المقام كناية عن السخط على ما قيل، ولهذا صح جعله جزاءاً وإن أبيت فهو دليله‏.‏

وفي الآية كما قالوا فنون من الاعتبارات المعربة عن كمال الاعتناء بأمر الحج والتشديد على تاركه ما لا مزيد عليه، وعدوا من ذلك إيثار صيغة الخبر وإبرازها في صورة الجملة الاسمية الدالة على الثبات والدوام على وجه يفيد أنه حق واجب لله تعالى في ذمم الناس وتعميم الحكم أولاً وتخصيصه ثانياً وتسمية ترك الحج كفراً من حيث إنه فعل الكفرة وذكر الاستغناء والعالمين‏.‏ وذكر الطيبي أن في تخصيص اسم الذات الجامع وتقديم الخبر الدلالة على أن ذلك عبادة لا ينبغي أن تختص إلا بمعبود جامع للكمالات بأسرها وأن في إقامة المظهر وهو البيت مقام المضمر بعد سبقه منكراً المبالغة في وصفه أقصى الغاية كأنه رتب الحكم على الوصف المناسب؛ وكذا في ذكر الناس بعد ذكره معرفاً الإشعار بعلية الوجوب وهو كونهم ناساً، وفي تذييل ‏{‏وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين‏}‏ لأنها في المعنى تأكيد الإيذان بأن ذلك هو الإيمان على الحقيقة وهو النعمة العظيمة وأن مباشره مستأهل لأن الله تعالى بجلالته وعظمته يرضى عنه رضاً كاملاً كما كان ساخطاً على تاركه سخطاً عظيماً، وفي تخصيص هذه العبادة وكونها مبينة لملة إبراهيم عليه السلام بعد الرد على أهل الكتاب فيما سبق من الآيات والعود إلى ذكرهم بعد خطب جليل وشأن خطير لتلك العبادة العظيمة، واستأنس بعضهم لكونه عبادة عظيمة بأنه من الشرائع القديمة بناءاً على ما روي أن آدم عليه السلام حج أربعين سنة من الهند ماشياً وأن جبريل قال له‏:‏ إن الملائكة كانوا يطوفون قبلك بهذا البيت سبعة آلاف سنة؛ وادعى ابن إسحق أنه لم يبعث الله تعالى نبياً بعد إبراهيم إلا حج، والذي صرح به غيره أنه ما من نبي إلا حج خلافاً لمن استثنى هوداً وصالحاً عليهما الصلاة والسلام، وفي وجوبه على من قبلنا وجهان قيل‏:‏ الصحيح أنه لم يجب إلا علينا واستغرب، وادعى جمع أنه أفضل العبادات لاشتماله على المال والبدن، وفي وقت وجوبه خلاف فقيل‏:‏ قبل الهجرة، وقيل‏:‏ أول سنيها وهكذا إلى العاشرة وصحح أنه في السادسة، نعم حج صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وبعدها وقبل الهجرة حججاً لا يدرى عددها والتسمية مجازية باعتبار الصورة بل قيل ذلك في حجة الصديق رضي الله تعالى عنه أيضاً في التاسعة لكن الوجه خلافه لأنه صلى الله عليه وسلم لا يؤمر إلا بحج شرعي، وكذا يقال في الثامنة التي أمر فيها عتاب بن أسيد أمير مكة وبعد ذلك حجة الوداع لا غير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ‏(‏98‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بئايات الله‏}‏ خاطبهم بعنوان أهلية الكتاب الموجبة للإيمان به وبما يصدقه مبالغة في تقبيح حالهم في تكذيبهم بذلك والاستفهام للتوبيخ والإشارة إلى تعجيزهم عن إقامة العذر في كفرهم كأنه قيل‏:‏ هاتوا عذركم إن أمكنكم‏.‏ والمراد من الآيات مطلق الدلائل الدالة على نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم وصدق مدعاه الذي من جملته الحج وأمره به، وبه تظهر مناسبة الآية لما قبلها، وسبب نزولها ما أخرجه ابن إسحق وجماعة عن زيد بن أسلم قال‏:‏ مرّ شاس بن قيس وكان شيخاً قد عسا في الجاهلية عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم على نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية فقال‏:‏ قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار فأمر فتى شاباً معه من يهود فقال‏:‏ اعمد إليهم فاجلس معهم ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ففعل، فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس وهبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه‏:‏ إن شئتم والله رددناها الآن وغضب الفريقان جميعاً وقالوا قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الظاهرة والظاهرة الحرة فخرجوا إليها وانضمت الأوس بعضها إلى بعض والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال‏:‏ يا معشر المسلمين اللَّهَ اللَّهَ أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله تعالى إلى الإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد لهم من عدوهم فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق الرجال بعضهم بعضاً ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله تعالى عنهم كيد عدو الله تعالى شماس، وأنزل الله تعالى في شأن شاس وما صنع ‏{‏قُلْ ياأهل أَهْلِ الكتاب لَمَن تَكْفُرُونِ‏}‏ إلى قوله سبحانه‏:‏

‏{‏وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 98، 99‏]‏ وأنزل في أوس بن قيظي وهبار ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا ‏{‏المحسنين ياأيها الذين ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 149‏]‏ الآية، وعلى هذا يكون المراد من أهل الكتاب ظاهراً اليهود‏.‏ وقيل‏:‏ المراد منه ما يشمل اليهود والنصارى‏.‏

‏{‏والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ‏}‏ جملة حالية العامل فيها ‏{‏تَكْفُرُونِ‏}‏ وهي مفيدة لتشديد التوبيخ والإظهار في موضع الإضمار لما مرّ غير مرة والشهيد العالم المطلع، وصيغة المبالغة للمبالغة في الوعيد وجعل الشهيد بمعنى الشاهد تكلف لا داعي إليه، و‏{‏مَا‏}‏ إما عبارة عن كفرهم، وإما على عمومها وهو داخل فيها دخولاً أولياً والمعنى لأي سبب تكفرون، والحال أنه لا يخفى عليه بوجه من الوجوه جميع أعمالكم وهو مجازيكم عليها على أتم وجه ولا مرية في أن هذا مما يسد عليكم طرق الكفر والمعاصي ويقطع أسباب ذلك أصلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تَصُدُّونَ‏}‏ أي تصرفون ‏{‏عَن سَبِيلِ الله‏}‏ أي طريقه الموصلة إليه وهي ملة الإسلام ‏{‏مَنْ ءامَنَ‏}‏ أي بالله وبما جاء من عنده أو من صدق بتلك السبيل وآمن بذلك الدين بالفعل أو بالقوة القريبة منه بأن أراد ذلك وصمم عليه وهو مفعول لتصدون قدم عليه الجار للاهتمام به ‏{‏تَبْغُونَهَا‏}‏ أي السبيل ‏{‏عِوَجَا‏}‏ أي اعوجاجاً وميلاً عن الاستواء ويستعمل مكسور العين في الدين والقول والأرض، ومنه ‏{‏لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 107‏]‏ ويستعمل المفتوح في ميل كل شيء منتضب كالقناة والحائط مثلاً وهو أحد مفعولي تبغون فإن بغى يتعدى لمفعولين أحدهما‏:‏ بنفسه والآخر‏:‏ باللام كما صرح به اللغويون وتعديته للهاء من باب الحذف والإيصال أي تبغون لها كما في قوله‏:‏

فتولى غلامهم ثم نادى *** أظليماً أصيدكم أم حمارا

أراد أصيد لكم، وقال ابن المنير‏:‏ «الأحسن جعل الهاء مفعولاً من غير حاجة إلى تقدير الجار، و‏{‏عِوَجَا‏}‏ حال موقع موع الاسم مبالغة كأنهم طلبوا أن تكون الطريقة القويمة نفس المعوج»، وادعى الطيبي أن فيه نظراً إذ لا يستقيم المعنى إلا على أن يكون ‏{‏عِوَجَا‏}‏ هو المفعول به لأن مطلوبهم فلا بدّ من تقدير الجار وفيه تأمل، وقيل‏:‏ ‏{‏عِوَجَا‏}‏ حال من فاعل تبغون والكلام فيه كالكلام في سابقه، وجملة تبغون على كل حال إما حال من ضمير ‏{‏تَصُدُّونَ‏}‏ أو من السبيل وإما مستأنفة جيء بها كالبيان لذلك الصد، والأكثرون على أنه كان بالتحريش والإغراء بين المؤمنين لتختلف كلمتهم ويختل أمر دينهم كما دل عليه ما أوردناه في بيان سبب النزول فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب هم اليهود أيضاً، والتعبير عنهم بهذا العنوان لما تقدم وإعادة الخطاب والاستفهام مبالغة في التقريع والتوبيخ لهم على قبائحهم وتفصيلها ولو قيل‏:‏ لم تكفرون بآيات الله وتصدون عن سبيل الله‏؟‏ لربما توهم أن التوبيخ على مجموع الآمرين، وقيل‏:‏ الخطاب لأهل الكتاب مطلقاً وكان صدهم عن السبيل بهتهم وتغييرهم صفة النبي صلى الله عليه وسلم وإلى هذا ذهب الحسن وقتادة وعن السدي كانوا إذا سألهم أحد هل تجدون محمداً في كتبكم‏؟‏ قالوا‏:‏ لا فيصدونه عن الإيمان به وهذا ذمّ لهم بالإضلال إثر ذمهم بالضلال‏.‏ وقرىء ‏{‏تَصُدُّونَ‏}‏ من أصد‏.‏

‏{‏وَأَنْتُمْ شُهَدَاء‏}‏ حال إما من فاعل ‏{‏تَصُدُّونَ‏}‏ أو من فاعل تبغون والاستنئاف خلاف الظاهر أي كيف تفعلون هذا وأنتم علماء عارفون بتقدم البشارة به صلى الله عليه وسلم مطلعون على صحة نبوته أو وأنتم عدول عند أهل ملتكم يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في القضايا وصفتكم هذه تقتضي خلاف ما أنتم عليه ‏{‏وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ تهديد لهم على ما صنعوا قيل‏:‏ لما كان كفرهم ظاهراً ناسب ذكر الشهادة معه في الآية السابقة لأنها تكون لما يظهر ويعلم، أو ما هو بمنزلته وصدهم عن سبيل الله وما معه لما كان بالمكر والحيلة الخفية التي تروج على الغافل ناسب ذكر الغفلة معه في هذه الآية فلهذا ختم كلاً من الآيتين بما ختم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

خطاب للأوس والخزرج على ما يقتضيه سبب النزول ويدخل غيرهم من المؤمنين في عموم اللفظ، وخاطبهم الله تعالى بنفسه بعد ما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بخطاب أهل الكتاب إظهاراً لجلالة قدرهم وإشعاراً بأنهم هم الأحقاء بأن يخاطبهم الله تعالى ويكلمهم فلا حاجة إلى أن يقال المخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم بتقدير قل لهم‏.‏ والمراد من الفريق بعض غير معين أو هو شاس بن قيس اليهودي، وفي الاقتصار عليه مبالغة في التحذير ولهذا على ما قيل حذف متعلق الفعل، وقال بعضهم‏:‏ هو على معنى إن تطيعوهم في قبول قولهم بإحياء الضغائن التي كانت بينكم في الجاهلية و‏{‏كافرين‏}‏ إما مفعول ثان ليردوكم على تضمين الردّ معنى التصيير كما في قوله‏:‏

رمى الحدثان نسوة آل سعد *** بمقدار سمدن له سمودا فرد شعورهن السود بيضا

ورد وجوههن البيض سودا *** أو حال من مفعوله، قالوا‏:‏ والأول‏:‏ أدخل في تنزيه المؤمنين عن نسبتهم إلى الكفر لما فيه من التصريح بكون الكفر المفروض بطريق القسر، و‏{‏بَعْدَ‏}‏ يجوز أن يكون ظرفاً ليردوكم وأن يكون ظرفاً لكافرين وإيراده مع عدم الحاجة إليه لإغناء ما في الخطاب عنه واستحالة الرد إلى الكفر بدون سبق الإيمان وتوسيطه بين المنصوبين لإظهار كمال شناعة الكفر وغاية بعده من الوقوع إما لزيادة قبحه أو لممانعة الإيمان له كأنه قيل‏:‏ بعد إيمانكم الراسخ، وفي ذلك من تثبيت المؤمنين ما لا يخفى وقدم توبيخ الكفار على هذا الخطاب لأن الكفار كانوا كالعلة الداعية إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏101‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ‏}‏ أي على أيّ حال يقع منكم الكفر ‏{‏وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ ءايات الله‏}‏ الدالة على توحيده ونبوة نبيه صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَفِيكُمْ رَسُولُهُ‏}‏ يعني‏:‏ محمداً صلى الله عليه وسلم يعلمكم الكتاب والحكمة ويزكيكم بتحقيق الحق وإزاحة الشبه، والجملة وقعت حالاً من ضمير المخاطبين في ‏{‏تَكْفُرُونِ‏}‏ والمراد استبعاد أن يقع منهم الكفر وعندهم ما يأباه‏.‏ وقيل‏:‏ المراد التعجيب أي لا ينبغي لكم أن تكفروا في سائر الأحوال لا سيما في هذه الحال التي فيها الكفر أفظع منه في غيرها؛ وليس المراد إنكار الواقع كما في ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 28‏]‏ الآية؛ وقيل‏:‏ المراد بكفرهم فعلهم أفعال الكفرة كدعوى الجاهلية فلا مانع من أن يكون الاستفهام لإنكار الواقع، والأول أولى وفي الآية تأييس لليهود مما راموه، والأكثرون على تخصيص هذا الخطاب بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الأوس والخزرج منهم، ومنهم من جعله عاماً لسائر المؤمنين وجميع الأمة، وعليه معنى كونه صلى الله عليه وسلم فيهم إن آثاره وشواهد نبوته فيهم لأنها باقية حتى يأتي أمر الله ولم يسند سبحانه التلاوة إلى رسوله عليه الصلاة والسلام إشارة إلى استقلال كل من الأمرين في الباب، وإيذاناً بأن التلاوة كافية في الغرض من أي تال كانت‏.‏

 ‏{‏وَمَن يَعْتَصِم بالله‏}‏ إما أن يقدر مضاف أي ومن يعتصم بدين الله؛ والاعتصام بمعنى التمسك استعارة تبعية، وإما أن لا يقدر فيجعل الاعتصام بالله استعارة للالتجاء إليه سبحانه قال الطيبي‏:‏ وعلى الأول‏:‏ تكون الجملة معطوفة على ‏{‏وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ‏}‏ أي كيف تكفرون أي والحال أن القرآن يتلى عليكم وأنتم عالمون بحال المعتصم به جل شأنه، وعلى الثاني‏:‏ تكون تذييلاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏المحسنين ياأيها الذين ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 100‏]‏ الخ لأن مضمونه أنكم إنما تطيعونهم لما تخافون من شرورهم ومكايدهم فلا تخافوهم والتجئوا إلى الله تعالى في دفع شرورهم ولا تطيعوهم أما علمتم أن من التجأ إلى الله تعالى كفاه شر ما يخافه، فعلى الأول‏:‏ جيء بهذه الجملة لإنكار الكفر مع هذا الصارف القوي المفهوم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ‏}‏ الخ، وعلى الثاني‏:‏ للحث على الالتجاء، ويحتمل على الأول التذييل، وعلى الثاني الحال أيضاً فافهم، و‏{‏مِنْ‏}‏ شرطية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَدْ هُدِىَ إلى صراط مّسْتَقِيمٍ‏}‏ جواب الشرط ولكونه ماضياً مع قد أفاد الكلام تحقق الهدى حتى كأنه قد حصل، قيل‏:‏ والتنوين للتفخيم ووصف الصراط بالاستقامة للتصريح بالرد على الذين يبغون له عوجاً، والصراط المستقيم وإن كان هو الدين الحق في الحقيقة والاهتداء إليه هو الاعتصام به بعينه لكن لما اختلف الاعتباران وكان العنوان الأخير مما يتنافس فيه المتنافسون أبرز في معرض الجواب للحث والترغيب على طريقة قوله تعالى‏:‏

‏{‏فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 185‏]‏ انتهى‏.‏

وأنت تعلم أن هذا على ما فيه إنما يحتاج إليه على تقدير أن يكون المراد من الاعتصام بالله الإيمان به سبحانه والتمسك بدينه كما قاله ابن جريج، وأما إذا كان المراد منه الثقة بالله تعالى والتوكل عليه والالتجاء إليه كما روي عن أبي العالية فيبعد الاحتياج، وعلى هذا يكون المراد من الاهتداء إلى الصراط المستقيم النجاة والظفر بالمخرج، فقد أخرج الحكيم الترمذي عن الزهري قال‏:‏ أوحى الله تعالى ‏(‏إلى‏)‏ داود عليه السلام ما من عبد يعتصم بي من دون خلقي وتكيده السموات والأرض إلا جعلت له من ذلك مخرجاً، وما من عبد يعتصم بمخلوق من دوني إلا قطعت أسباب السماء بين يديه وأسخت الأرض من تحت قدميه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ‏}‏ كرر الخطاب بهذا العنوان تشريفاً لهم ولا يخفى ما في تكراره من اللطف بعد تكرار خطاب الذين أوتوا الكتاب ‏{‏اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ أي حق تقواه، روى غير واحد عن ابن مسعود موقوفاً ومرفوعاً هو أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويُشكر فلا يكفر، وادعى كثير نسخ هذه الآية وروي ذلك عن ابن مسعود‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال‏:‏ لما نزلت اشتد على القوم العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم فأنزل الله تعالى تخفيفاً على المسلمين ‏{‏فاتقوا الله مَا استطعتم‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏ فنسخت الآية الأولى، ومثله عن أنس وقتادة وإحدى الروايتين عن ابن عباس، روى ابن جرير من بعض الطرق عنه أنه قال‏:‏ لم تنسخ ولكن ‏{‏حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ أن يجاهدوا في الله حق جهاده ولا تأخذهم في الله تعالى لومة لائم ويقوموا لله سبحانه بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم، ومن قال بالنسخ جنح إلى أن المراد من ‏{‏حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ ما يحق له ويليق بجلاله وعظمته وذلك غير ممكن وما قدروا الله حق قدره، ومن قال بعدم النسخ جنح إلى أن ‏{‏حَقّ‏}‏ من حق الشيء بمعنى وجب وثبت، والإضافة من باب إضافة الصفة إلى موصوفها وأن الأصل اتقوا الله اتقاءاً حقاً أي ثابتاً وواجباً على حد ضربت زيد شديد الضرب تريد الضرب الشديد فيكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله مَا استطعتم‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏ بياناً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏‏.‏

وادعى أبو علي الجبائي أن القول بالنسخ باطل لما يلزم عليه من إباحة بعض المعاصي، وتعقبه الرماني بأنه إذا وجه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ على أن يقوموا بالحق في الخوف والأمن لم يدخل عليه ما ذكره لأنه لا يمتنع أن يكون أوجب عليهم أن يتقوا الله سبحانه وتعالى على كل حال، ثم أباح ترك الواجب عند الخوف على النفس كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 106‏]‏ وأنت تعلم أن ما ذكره الجبائي إنما يخطر بالبال حتى يجاب عنه إذا فسر ‏{‏حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ على تقدير النسخ بما فسره هو به من ترك جميع المعاصي ونحوه وإن لم يفسر بذلك بل فسر بما جنح إليه القائل بالنسخ فلا يكاد يخطر ما ذكره ببال ليحتاج إلى الجواب، نعم يكون القول بإنكار النسخ حينئذ مبنياً على ما ذهب إليه المعتزلة من امتناع التكليف بما لا يطاق ابتداءاً كما لا يخفى، وأصل تقاة وقية قلبت واوها المضمومة تاءاً كما في تهمة وتخمة وياؤها المفتوحة ألفاً، وأجاز فيها الزجاج ثلاثة أوجه‏:‏ تقاة، ووقاة، وإقاة‏.‏

‏{‏وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ أي مخلصون نفوسكم لله عز وجل لا تجعلون فيها شركة لسواه أصلاً، وذكر بعض المحققين أن الإسلام في مثل هذا الموضع لا يراد به الأعمال بل الإيمان القلبي لأن الأعمال حال الموت مما لا تكاد تتأتى ولذا ورد في دعاء صلاة الجنازة اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن أمته منا فأمته على الإيمان فأخذ الإسلام أولاً والإيمان ثانياً لما أن لكل مقام مقالاً، والاستثناء ‏(‏مفرغ‏)‏ من أعم الأحوال أي لا تموتن على حال من الأحوال إلا على حال تحقق إسلامكم وثباتكم عليه كما تفيده الجملة الاسمية، ولو قيل‏:‏ إلا مسلمين لم يقع هذا الموقع والعامل في الحال ما قبل ‏{‏إِلا‏}‏ بعد النقض والمقصود النهي عن الكون على حال غير حال الإسلام عند الموت، ويؤل إلى إيجاب الثبات على الإسلام إلى الموت إلا أنه وجه النهي إلى الموت للمبالغة في النهي عن قيده المذكور وليس المقصود النهي عنه أصلاً لأنه ليس بمقدور لهم حتى ينهوا عنه، وفي التحبير للإمام السيوطي‏:‏ ومن عجيب ما اشتهر في تفسير ‏{‏مُّسْلِمُونَ‏}‏ قول العوام‏:‏ أي متزوجون وهو قول لا يعرف له أصل ولا يجوز الإقدام على تفسير كلام الله تعالى بمجرد ما يحدث في النفس أو يسمع ممن لا عهدة عليه انتهى، وقرأ أبو عبد الله رضي الله تعالى عنه ‏{‏مُّسْلِمُونَ‏}‏ بالتشديد ومعناه مستسلمون لما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم منقادون له؛ وفي هذه الآية تأكيد للنهي عن إطاعة أهل الكتاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

‏{‏واعتصموا بِحَبْلِ الله‏}‏ أي القرآن وروى ذلك بسند صحيح عن ابن مسعود‏.‏ وأخرج غير واحد عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض ‏"‏ وأخرج أحمد عن زيد بن ثابت قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله عز وجل ممدود مابين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ‏"‏ وورد بمعنى ذلك أخبار كثيرة وقيل‏:‏ المراد بحبل الله الطاعة والجماعة، وروي ذلك عن ابن مسعود أيضاً‏.‏ أخرج ابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن ثابت بن قطنة المزني قال‏:‏ سمعت ابن مسعود يخطب وهو يقول‏:‏ أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة فإنهما حبل الله تعالى الذي أمر به، وفي رواية عنه حبل الله تعالى الجماعة، وروي ذلك أيضاً عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي العالية أنه الإخلاص لله تعالى وحده وعن الحسن أنه طاعه الله عز وجل وعن ابن زيد أنه الإسلام، وعن قتادة أنه عهد الله تعالى وأمره وكلها متقاربة‏.‏ وفي الكلام استعارة تمثيلية بأن شبهت الحالة الحاصلة للمؤمنين من استظهارهم بأحد ما ذكر ووثوقهم بحمايته بالحالة الحاصلة من تمسك المتدلي من مكان رفيع بحبل وثيق مأمون الانقطاع من غير اعتبار مجاز في المفردات، واستعير ما يستعمل في المشبه به من الألفاظ للمشبه، وقد يكون في الكلام استعارتان مترادفتان بأن يستعار الحبل للعهد مثلاً استعارة مصرحة أصلية والقرينة الإضافة، ويستعار الاعتصام للوثوق بالعهد والتمسك به على طريق الاستعارة المصرحة التبعية والقرينة اقترانها بالاستعارة الثانية، وقد يكون في ‏{‏اعتصموا‏}‏ مجاز مرسل تبعي بعلاقة الإطلاق والتقييد، وقد يكون مجازاً بمرتبتين لأجل إرسال المجاز وقد تكون الاستعارة في الحبل فقط ويكون الاعتصام باقياً على معناه ترشيحاً لها على أتم وجه، والقرينة قد تختلف بالتصرف فباعتبار قد تكون مانعة وباعتبار آخر قد لا تكون، فلا يرد أن احتمال المجازية يتوقف على قرينة مانعة عن إرادة الموضع له فمع وجودها كيف يتأتى إرادة الحقيقة ليصح الأمران في ‏{‏اعتصموا‏}‏ وقد تكون الاستعارتان غير مستقلتين بأن تكون الاستعارة في الحبل مكنية وفي الاعتصام تخييلية لأن المكنية مستلزمة للتخييلية قاله الطيبي، ولا يخفى أنه أبعد من العيوق‏.‏ وقد ذكرنا في «حواشينا على رسالة ابن عصام» ما يردّ على بعض هذه الوجوه مع الجواب عن ذلك فارجع إليه إن أردته‏.‏

‏{‏انفروا جَمِيعاً‏}‏ حال من فاعل ‏{‏اعتصموا‏}‏ كما هو الظاهر المتبادر أي مجتمعين عليه فيكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ‏}‏ تأكيداً بناءاً على أن المعنى ولا تتفرقوا عن الحق الذي أمرتم بالاعتصام به، وقيل‏:‏ المعنى لا يقع بينكم شقاق وحروب كما هو مراد المذكرين لكم بأيام الجاهلية الماكرين بكم، وقيل‏:‏ المعنى لا تتفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي ذلك عن الحسن‏.‏

‏{‏واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ أي جنسها ومن ذلك الهداية والتوفيق للإسلام المؤدي إلى التآلف وزوال الأضغان، ويحتمل أن يكون المراد بها ما بينه سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ كُنتُم أَعْدَاء‏}‏ أي في الجاهلية ‏{‏فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ‏}‏ بالإسلام، ونعمة مصدر مضاف إلى الفاعل، و‏{‏عَلَيْكُمْ‏}‏ إما متعلق به أو حال منه، و‏{‏إِذْ‏}‏ إما ظرف للنعمة أو للاستقرار في ‏{‏عَلَيْكُمْ‏}‏ إذا جعلته حالاً، قيل‏:‏ وأراد سبحانه بما ذكر ما كان بين الأوس والخزرج من الحروب التي تطاولت مائة وعشرين سنة إلى أن ألف سبحانه بينهم بالإسلام فزالت الأحقاد قاله ابن إسحق وكان يوم بعاث آخر الحروب التي جرت بينهم وقد فصل ذلك في «الكامل»، وقيل‏:‏ أراد ما كان بين مشركي العرب من التنازع الطويل والقتال العريض ومنه حرب البسوس، ونقل ذلك عن الحسن رضي الله تعالى عنه ‏{‏فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً‏}‏ أي فصرتم بسبب نعمته التي هي ذلك التأليف متحابين فأصبح ناقصة، و‏{‏إِخْوَانًا‏}‏ خبره، وقيل‏:‏ ‏{‏أصبحتم‏}‏ أي دخلتم في الصباح فالباء حينئذ متعلقة بمحذوف وقع حالاً من الفاعل وكذا إخواناً أي فأصبحتم متلبسين بنعمته حال كونكم إخواناً، والإخوان جمع أخ وأكثر ما يجمع أخو الصداقة على ذلك على الصحيح، وفي «الاتقان» الأخ في النسب جمعه إخوة وفي الصداقة إخوان، قاله ابن فارس وخالفه غيره وأورد في الصداقة ‏{‏إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 10‏]‏ وفي النسب ‏{‏أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏ ‏{‏أَوْ بُيُوتِ إخوانكم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 61‏]‏‏.‏

‏{‏وَكُنتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النار‏}‏ أي وكنتم على طرف حفرة من جهنم إذ لم يكن بينكم وبينها إلا الموت وتفسير الشفا بالطرف مأثور عن السدي في الآية ووارد عن العرب ويثني على شفوان ويجمع على أشفاء ويضاف إلى الأعلى ك ‏{‏شفا جرف هار‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 109‏]‏ وإلى الأسفل قيل‏:‏ كما هنا وكون المراد من النار ما ذكرنا هو الظاهر وحملها على نار الحرب بعيد ‏{‏فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا‏}‏ أي بمحمد صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس والضمير المجرور عائد إما على ‏{‏النار‏}‏، أو على حفرة أو على شفا لأنه بمعنى الشفة، أو لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه كما في قوله‏:‏

وتشرق بالقول الذي قد أذعته *** كما شرقت صدر القناة من الدم

فإن المضاف يكتسب التأنيث من المضاف إليه إذا كان بعضاً منه أو فعلاً له أو صفة كما صرحوا به وما نحن فيه من الأول، ومن أطلق لزمه جواز قامت غلام هند، واختار الزمخشري الاحتمال الأخير، وقال ابن المنير‏:‏ «وعود الضمير إلى الحفرة أتم لأنها التي يمتن بالانقاذ منها حقيقة، وأما الامتنان بالانقاذ من الشفا قلما يستلزمه الكون على الشفا غالباً من الهوي إلى الحفرة فيكون الانقاذ من الشفا إنقاذاً من الحفرة التي يتوقع الهوي فيها فإضافة المنة إلى الإنقاذ من الحفرة ‏(‏تكون‏)‏ أبلغ وأوقع مع أن اكتساب التأنيث من المضاف إليه قد عده أبو علي في «التعاليق» من ضرورة الشعر خلاف رأيه في «الإيضاح»، وما حمل الزمخشري على إعادة الضمير إلى الشفا إلا أنه هو الذي كانوا عليه ولم يكونوا في الحفرة حتى يمتن عليهم بالإنقاذ من الحفرة، وقد علم أنهم كانوا صائرين إليها ‏(‏غالباً‏)‏ ‏(‏1‏)‏ لولا الانقاذ الرباني ‏(‏فبولغ في الامتنان بذلك‏)‏ ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏"‏ الراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ‏"‏ وإلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فانهار بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 109‏]‏ فانظر كيف جعل تعالى كون البنيان على الشفا سبياً مؤدياً إلى انهياره في نار جهنم مع تأكيد ذلك بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏هَارٍ‏}‏» انتهى، ومنه يعلم ما في قول أبي حيان ‏(‏في البحر» 391‏)‏‏:‏ من «أنه لا يحسن عوده إلا إلى الشفا لأن كينونتهم عليه هو أحد جزأي الإسناد فالضمير لا يعود إلا إليه لا على الحفرة لأنها غير محدث عنها ولا على النار لأنه إنما جيء بها لتخصيص الحفرة‏.‏ وأيضاً فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة ومن النار ‏(‏لأن الإنقاد منه يستلزم الإنقاد من الحفرة ومن النار‏)‏، والإنقاذ منهما لا يستلزم الانقاذ من الشفا فعوده على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى، نعم ما ذكره من أن عوده على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ظاهر بناءاً على أن الأصل أن يعود الضمير على المضاف دون المضاف إليه إذا صلح لكل منهما ولو بتأويل إلا أنه قد يترك ذلك فيعود على المضاف إليه إما مطلقاً كما هو قول ابن المنير أو بشرط كونه بعضه أو كبعضه كقول جرير‏:‏

أرى مرّ السنين ‏(‏أخذن‏)‏ مني *** فإن مرّ السنين من جنسها، وإليه ذهب الواحدي والشرط موجود فيما نحن فيه‏.‏

‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل ذلك التبيين الواضح ‏{‏يُبَيّنُ الله لَكُمْ ءاياته‏}‏ أي دلائله فيما أمركم به ونهاكم عنه ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏ أي لكي تدوموا على الهدى وازديادكم فيه كما يشعر به كون الخطاب للمؤمنين أو صيغة المضارع من الافتعال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏104‏)‏‏}‏

‏{‏وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير‏}‏ أمرهم سبحانه بتكميل الغير إثر أمرهم بتكميل النفس ليكونوا هادين مهديين على ضد أعدائهم فإن ما قص الله تعالى من حالهم فيما سبق يدل على أنهم ضالون مضلون، والجمهور على إسكان لام الأمر، وقرىء بكسرها على الأصل، و‏(‏ تكن‏)‏ إما من كان التامة فتكون ‏{‏أُمَّةٍ‏}‏ فاعلاً وجملة ‏{‏يَدَّعُونَ‏}‏ صفته و‏{‏مّنكُمْ‏}‏ متعلق بتكن أو بمحذوف على أن يكون صفة لأمة قدم عليها فصار حالاً‏.‏ وإما من كان الناقصة فتكون ‏{‏أُمَّةٍ‏}‏ اسمها ‏{‏وَيُدْعَوْنَ‏}‏ خبرها و‏{‏مّنكُمْ‏}‏ إما حال من أمة أو متعلق بكان الناقصة، والأمة الجماعة التي تؤم أي تقصد لأمر مّا، وتطلق على أتباع الأنبياء لاجتماعهم على مقصد واحد وعلى القدوة؛ ومنه ‏{‏إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 120‏]‏ وعلى الدين والملة، ومنه ‏{‏بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 22‏]‏ وعلى الزمان، ومنه ‏{‏وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 54‏]‏ إلى غير ذلك من معانيها‏.‏

والمراد من الدعاء إلى الخير الدعاء إلى ما فيه صلاح ديني أو دنيوي فعطف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه في قوله سبحانه‏:‏

‏{‏وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر‏}‏ من باب عطف الخاص على العام إيذاناً بمزيد فضلهما على سائر الخيرات كذا قيل‏:‏ وقال ابن المنير‏:‏ «إن هذا ليس من تلك الباب لأنه ذكر بعد العام جميع ما يتناوله إذ الخير المدعو إليه إما فعل مأمور أو ترك منهي لا يعدو واحداً من هذين حتى يكون تخصيصهما بتميزهما عن بقية المتناولات، فالأولى أن يقال فائدة هذا التخصيص ذكر الدعاء إلى الخير عاماً ثم مفصلاً، وفي تثنية الذكر على وجهين ما لا يخفى من العناية إلا إن ثبت عرف يخص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببعض أنواع الخير وحينئذ يتم ما ذكر، وما أرى هذا العرف ثابتاً» انتهى، وله وجه وجيه لأن الدعاء إلى الخير لو فسر بما يشمل أمور الدنيا وإن لم يتعلق بها أمر أو نهي كان أعم من فرض الكفاية ولا يخفى ما فيه، على أنه قد أخرج ابن مردويه عن الباقر رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير‏}‏ ثم قال‏:‏ الخير اتباع القرآن وسنتي» وهذا يدل أن الدعاء إلى الخير لا يشمل الدعاء إلى أمور الدنيا‏.‏

ومن الناس من فسر الخير بمعروف خاص وهو الإيمان بالله تعالى وجعل المعروف في الآية ما عداه من الطاعات فحينئذ لا يتأتى ما قاله ابن المنير أيضاً، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل أن الخير الإسلام والمعروف طاعة الله والمنكر معصيته، وحذف المفعول الصريح من الأفعال الثلاثة إما للإعلام بظهوره أي يدعون الناس ولو غير مكلفين ويأمرونهم وينهونهم، وإما للقصد إلى إيجاد نفس الفعل على حدّ فلان يعطي أي يفعلون الدعاء والأمر والنهي ويوقعونها، والخطاب قيل متوجه إلى من توجه الخطاب الأول إليه في رأي وهم الأوس والخزرج، وأخرج ابن المنذر عن الضحاك أنه متوجه إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة وهم الرواة، والأكثرون على جعله عاماً ويدخل فيه من ذكر دخولاً أولياً، و‏(‏ من‏)‏ هنا قيل‏:‏ للتبعيض، وقيل‏:‏ للتبيين وهي تجريدية كما يقال لفلان من أولاده جند وللأمير من غلمانه عسكر يراد بذلك جميع الأولاد والغلمان‏.‏

ومنشأ الخلاف في ذلك أن العلماء اتفقوا على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات ولم يخالف في ذلك إلا النزر، ومنهم الشيخ أبو جعفر من الإمامية قالوا‏:‏ إنها من فروض الأعيان، واختلفوا في أن الواجب على الكفاية هل هو واجب على جميع المكلفين ويسقط عنهم بفعل بعضهم أو هو واجب على البعض‏؟‏ ذهب الإمام الرازي وأتباعه إلى الثاني للاكتفاء بحصوله من البعض ولو وجب على الكل لم يكتف بفعل البعض إذ يستبعد سقوط الواجب على المكلف بفعل غيره، وذهب إلى الأول الجمهور وهو ظاهر نص الإمام الشافعي في «الأم»، واستدلوا على ذلك بإثم الجميع بتركه ولو لم يكن واجباً عليهم كلهم لما أثموا بالترك‏.‏ وأجاب الأولون عن هذا بأن إثمهم بالترك لتفويتهم ما قصد حصوله من جهتهم في الجملة لا للوجوب عليهم، واعترض عليه من طرف الجمهور بأن هذا هو الحقيق بالاستبعاد أعني إثم طائفة بترك أخرى فعلاً كلفت به‏.‏  والجواب عنه بأنه ليس الإسقاط عن غيرهم بفعلهم أولى من تأثيم غيرهم بتركهم يقال فيه‏:‏ بل هو أولى لأنه قد ثبت نظيره شرعاً من إسقاط ما على زيد بأداء عمرو ولم يثبت تأثيم إنسان بترك آخر فيتم ما قاله الجمهور‏.‏

واعترض القول بأن هذا هو الحقيق بالاستبعاد بأنه إنما يتأتى لو ارتبط التكليف في الظاهر بتلك الطائفة الأخرى بعينها وحدها لكنه ليس كذلك بل كلتا الطائفتين متساويتان في احتمال الأمر لهما وتعلقه بهما من غير مزية لإحداهما على الأخرى فليس في التأثيم المذكور تأثيم طائفة بترك أخرى فعلا كلفت به إذ كون الأخرى كلفت به غير معلوم بل كلتا الطائفتين متساويتان في احتمال كل أن تكون مكلفة به فالاستبعاد المذكور ليس في محله على أنه إذا قلنا بما اختاره جماعة من أصحاب المذهب الثاني من أن البعض مبهم آل الحال إلى أن المكلف طائفة لا بعينها فيكون المكلف القدر المشترك بين الطوائف الصادق بكل طائفة فجميع الطوائف مستوية في تعلق الخطاب بها بواسطة تعلقه بالقدر المشترك المستوي فيها فلا إشكال في اسم الجميع ولا يصير النزاع بهذا بين الطائفتين لفظياً حيث إن الخطاب حينئذ عم الجميع على القولين وكذا الإثم عند الترك لما أن في أحدهما دعوى التعليق بكل واحد بعينه، وفي الآخر دعوى تعلقه بكل بطريق السراية من تعلقه بالمشترك، وثمرة ذلك أن من شك أن غيره هل فعل ذلك الواجب لا يلزمه على القول بالسراية ويلزمه على القول بالابتداء ولا يسقط عنه إلا إذا ظن فعل الغير، ومن هنا يستغنى عن الجواب عما اعترض به من طرف الجمهور فلا يضرنا ما قيل فيه على أنه يقال على ما قيل‏:‏ ليس الدين نظير ما نحن فيه كلياً لأن دين زيد واجب عليه وحده بحسب الظاهر ولا تعلق له بغيره فلذا صح أن يسقط عنه بأداء غيره ولم يصح أن يأثم غيره بترك أدائه بخلاف ما نحن فيه فإن نسبة الواجب في الظاهر إلى كلتا الطائفتين على السواء فيه فجاز أن يأثم كل طائفة بترك غيرها لتعلق الوجوب بها بحسب الظاهر واستوائها مع غيرها في التعلق‏.‏

وأما قولهم‏:‏ ولم يثبت تأثيم إنسان بأداء آخر فهو لا يطابق البحث إذ ليس المدعي تأثيم أحد بأداء غيره بل تأثيمه بترك فالمطابق ولم يثبت تأثيم إنسان بترك أداء آخر ويتخلص منه حينئذ بأن التعلق في الظاهر مشترك في سائر الطوائف فيتم ما ذهب إليه الإمام الرازي وأتباعه وهو مختار ابن السبكي خلافاً لأبيه، إذا تحقق هذا فاعلم أن القائلين بأن المكلف البعض قالوا‏:‏ إن من للتبعيض، وأن القائلين بأن المكلف الكل قالوا‏:‏ إنها للتبيين، وأيدوا ذلك بأن الله تعالى أثبت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكل الأمة في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏ ولا يقتضي ذلك كون الدعاء فرض عين فإن الجهاد من فروض الكفاية بالاجماع مع ثبوته بالخطابات العامة فتأمل‏.‏

‏{‏وَأُوْلئِكَ‏}‏ أي الموصوفون بتلك الصفات الكاملة‏.‏ ‏{‏هُمُ المفلحون‏}‏ أي الكاملون في الفلاح وبهذا صح الحصر المستفاد من الفصل وتعريف الطرفين، أخرج الإمام أحمد وأبو يعلى عن درة بنت أبي لهب قالت‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خير الناس‏؟‏ قال‏:‏ «آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله تعالى وأوصلهم للرحم» وروى الحسن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله تعالى وخليفة رسوله الله صلى الله عليه وسلم وخليفة كتابه، وروى لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله تعالى عليكم سلطاناً ظالماً لا يجل كبيركم ولا يرحم صغيركم ويدعو خياركم فلا يستجاب لهم وتستنصرون فلا تنصرون والأمر بالمعروف يكون واجباً ومندوباً على حسب ما يؤمر به والنهي عن المنكر كذلك أيضاً إن قلنا إن المكروه منكر شرعاً، وأما إن فسر بما يستحق العقاب عليه كما أن المعروف ما يستحق الثواب عليه فلا يكون إلا واجباً، وبه قال بعضهم إلا أنه يرد أنهما ليسا على طرفي نقيض والأظهر أن العاصي يجب عليه أن ينهى عما يرتكبه لأنه يجب عليه نهي كل فاعل وترك نهي بعض وهو نفسه لا يسقط عنه وجوب نهي الباقي وكذا يقال في جانب الأمر ولا يعكر على ذلك قوله تعالى‏:‏

‏{‏لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 2‏]‏ لأنه مؤل بأن المراد نهيه عن عدم الفعل لا عن القول ولا قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 44‏]‏ لأن التوبيخ إنما هو على نسيان أنفسهم لا على أمرهم بالبر، وعن بعض السلف مروا بالخير وإن لم تفعلوا، نعم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروط معروفة محلها والأصل فيهما افعل كذا ولا تفعل كذا، والقتال ليمتثل المأمور والمنهي أمر وراء ذلك وليس داخلاً في حقيقتهما وإن وجب على بعض كالأمراء في بعض الأحيان لأن ذلك حكم آخر كما يشعر به قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏105‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ‏}‏ وهم اليهود والنصارى قاله الحسن والربيع‏.‏ وأخرج ابن ماجه عن عوف بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة والذي نفسي بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار قيل‏:‏ يا رسول الله من هم‏؟‏ قال‏:‏ الجماعة» وفي رواية أحمد عن معاوية مرفوعاً «إن أهل الكتاب تفرقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين كلها في النار إلا واحدة»، وفي رواية له أخرى عن أنس مرفوعاً أيضاً «إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة فهلكت سبعون فرقة وخلصت فرقة واحدة وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة تهلك إحدى وسبعون فرقة وتخلص فرقة» ولا تعارض بين هذه الروايات لأن الافتراق حصل لمن حصل على طبق ما وقع فيها في بعض الأوقات وهو يكفي للصدق وإن زاد العدد أو نقص في وقت آخر ‏{‏واختلفوا‏}‏ في التوحيد والتنزيه وأحوال المعاد، قيل‏:‏ وهذا معنى تفرقوا وكرره للتأكيد، وقيل‏:‏ التفرق بالعداوة والاختلاف بالديانة‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ البينات‏}‏ أي الآيات والحجج المبينة للحق الموجبة لاتحاد الكلمة، وقال الحسن‏:‏ التوراة، وقال قتادة‏.‏ وأبو أمامة‏:‏ القرآن ‏{‏وَأُوْلئِكَ‏}‏ إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما في حيز الصلة ‏{‏لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ لا يكتنه على تفرقهم واختلافهم المذكور، وفي ذلك وعيد لهم وتهديد للمتشبهين بهم لأن التشبيه بالمغضوب عليه يستدعي الغضب‏.‏

ثم إن هذا الاختلاف المذموم محمول كما قيل على الاختلاف في الأصول دون الفروع ويؤخذ هذا التخصيص من التشبيه، وقيل‏:‏ إنه شامل للأصول والفروع لما نرى من اختلاف أهل السنة فيها كالماتريدي والأشعري فالمراد حينئذٍ بالنهي عن الاختلاف النهي عن الاختلاف فيما ورد فيه نص من الشارع أو أجمع عليه وليس بالبعيد‏.‏

واستدل على عدم المنع من الاختلاف في الفروع بقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «اختلاف أمتي رحمة» وبقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مهما أوتيتم من كتاب الله تعالى فالعمل به لا عذر لأحد في تركه فإن لم يكن في كتاب الله تعالى فسنة مني ماضية فإن لم يكن سنة مني فما قال أصحابي إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيما أخذتم به اهتديتم واختلاف أصحابي لكم رحمة»، وأراد بهم صلى الله عليه وسلم خواصهم البالغين رتبة الاجتهاد والمقصود بالخطاب من دونهم فلا إشكال فيه خلافاً لمن وهم، والروايات عن السلف في هذا المعنى كثيرة‏.‏

فقد أخرج البيهقي في «المدخل» عن القاسم بن محمد قال‏:‏ اختلاف أصحاب محمد رحمة لعباد الله تعالى، وأخرجه ابن سعد في «طبقاته» بلفظ كان اختلاف أصحاب محمد رحمة للناس، وفي «المدخل» عن عمر بن عبد العزيز قال‏:‏ ما سرني لو أن أصحاب محمد لم يختلفوا لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة، واعترض الإمام السبكي بأن اختلاف أمتي رحمة ليس معروفاً عند المحدثين ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع ولا أظن له أصلاً إلا أن يكون من كلام الناس بأن يكون أحد قال‏:‏ اختلاف الأمة رحمة فأخذه بعضهم فظنه حديثاً فجعله من كلام النبوة وما زلت أعتقد أن هذا الحديث لا أصل له، واستدل على بطلانه بالآيات والأحاديث الصحيحة الناطقة بأن الرحمة تقتضي عدم الاختلاف والآيات أكثر من أن تحصى، ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنما هلكت بنو إسرائيل بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ‏"‏ وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ لا تختلفوا فتختلف قلوبكم ‏"‏ وهو وإن كان وارداً في تسوية الصفوف إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ثم قال‏:‏ والذي نقطع به أن الاتفاق خير من الاختلاف وأن الاختلاف على ثلاثة أقسام‏.‏ أحدها‏:‏ في الأصول ولا شك أنه ضلال وسبب كل فساد وهو المشار إليه في القرآن، والثاني‏:‏ في الآراء والحروب ويشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن‏:‏ «تطاوعا ولا تختلفا» ولا شك أيضاً أنه حرام لما فيه من تضييع المصالح الدينية والدنيوية، والثالث‏:‏ في الفروع كالاختلاف في الحلال والحرام ونحوهما والذي نقطع به أن الاتفاق خير منه أيضاً لكن هل هو ضلال كالقسمين الأولين أم لا‏؟‏ فيه خلاف، فكلام ابن حزم ومن سلك مسلكه ممن يمنع التقليد يقتضي الأول، وأما نحن فإنا نجوز التقليد للجاهل والأخذ عند الحاجة بالرخصة من أقوال بعض العلماء من غير تتبع الرخص وهو يقتضي الثاني، ومن هذا الوجه قد يصح أن يقال‏:‏ الاختلاف رحمة فإن الرخص منها بلا شبهة وهذا لا ينافي قطعاً القطع بأن الاتفاق خير من الاختلاف فلا تنافي بين الكلامين لأن جهة الخيرية تختلف وجهة الرحمة تختلف، فالخيرية في العلم بالدين الحق الذي كلف الله تعالى به عباده وهو الصواب عنده والرحمة في الرخصة له وإباحة الإقدام بالتقليد على ذلك، ورحمة نكرة في سياق الإثبات لا تقتضي العموم فيكتفي في صحته أن يحصل في الاختلاف رحمة مّا في وقت مّا في حالة مّا على وجه مّا فإن كان ذلك حديثاً فيخرج على هذا وكذا إن لم يكنه، وعلى كل تقدير لا نقول إن الاختلاف مأمور به، والقول بأن الاتفاق مأمور به يلتفت إلى أن المصيب واحد أم لا‏؟‏ فإن قلنا‏:‏ إن المصيب واحد وهو الصحيح فالحق في نفس الأمر واحد والناس كلهم مأمورون بطلبه واتفاقهم عليه مطلوب والاختلاف حينئذٍ منهي عنه وإن عذر المخطىء وأثيب على اجتهاده وصرف وسعه لطلب الحق‏.‏

فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن العاص «إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر» وكذلك إذا قلنا بالشبه كما هو قول بعض الأصوليين، وأما إذا قلنا‏:‏ كل مجتهد مصيب فكل أحد مأمور بالاجتهاد وباتباع ما غلب على ظنه فلا يلزم أن يكونوا كلهم مأمورين بالاتفاق ولا أن لا يكون اختلافهم منهياً عنه، وإطلاق الرحمة على هذا التقدير في الاختلاف أقوى من إطلاقها على قولنا‏:‏ المصيب واحد، هذا كله إذا حملنا الاختلاف في الخبر على الاختلاف في الفروع، وأما إذا قلنا المراد الاختلاف في الصنائع والحرف فلا شك أن ذلك من نعم الله تعالى التي يطلب من العبد شكرها كما قال الحليمي في «شعب الإيمان»، لكن كان المناسب على هذا أن يقال اختلاف الناس رحمة إذ لا خصوصية للأمة بذلك فإن كل الأمم مختلفون في الصنائع والحرف لا هذه الأمة فقط فلا بد لتخصيص الأمة من وجه، ووجهه إمام الحرمين بأن المراتب والمناصب التي أعطيتها أمته صلى الله عليه وسلم لم تعطها أمة من الأمم فهي من رحمة الله تعالى لهم وفضله عليهم لكنه لا يسبق من لفظ الاختلاف إلى ذلك ولا إلى الصنائع والحرف، فالحرفة الإبقاء على الظاهر المتبادر وتأويل الخبر بما تقدم‏.‏

هذه خلاصة كلامه ولا يخفى أنه مما لا بأس به، نعم كون الحديث ليس معروفاً عند المحدثين أصلاً لا يخلو عن شيء، فقد عزاه الزركشي في «الأحاديث المشتهرة» إلى كتاب «الحجة» لنصر المقدسي ولم يذكر سنده ولا صحته لكن ورد ما يقويه في الجملة مما نقل من كلام السلف، والحديث الذي أوردناه قبل وإن رواه الطبري والبيهقي في «المدخل» بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على أنه يكفي في هذا الباب الحديث الذي أخرجه الشيخان وغيرهما، فالحق الذي لا محيد عنه أن المراد اختلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن شاركهم في الاجتهاد كالمجتهدين المعتد بهم من علماء الدين الذين ليسوا بمبتدعين وكون ذلك رحمة لضعفاء الأمة، ومن ليس في درجتهم مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان ولا يتنازع فيه اثنان فليفهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏106‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ‏}‏ نصب بما في ‏{‏لَهُمْ‏}‏ من معنى الاستقرار أو منصوب بأذكر مقدراً، وقيل‏:‏ العامل فيه عذاب وضعف بأن المصدر الموصوف لا يعمل، وقيل‏:‏ عظيم، وأورد عليه أنه يلزم تقييد عظمته بهذا ولا معنى له، ورد بأنه إذا عظم فيه وفيه كل عظيم ففي غيره أولى إلا أن يقال‏:‏ إن التقييد ليس بمراد، والمراد بالبياض معناه الحقيقي أو لازمه من السرور والفرح وكذا يقال في السواد والجمهور على الأول قالوا‏:‏ يوسم أهل الحق ببياض الوجه وإشراق البشرة تشريفاً لهم وإظهاراً لآثار أعمالهم في ذلك الجمع، ويوسم أهل الباطل بضد ذلك، والظاهر أن الإبيضاض والإسوداد يكون لجميع الجسد إلا أنهما أسندا للوجوه لأن الوجه أول ما يلقاك من الشخص وتراه وهو أشرف أعضائه‏.‏ واختلف في وقت ذلك فقيل‏:‏ وقت البعث من القبور، وقيل‏:‏ وقت قراءة الصحف، وقيل‏:‏ وقت رجحان الحسنات والسيئات في الميزان، وقيل‏:‏ عند قوله تعالى شأنه‏:‏ ‏{‏وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون‏}‏ ‏[‏ياس‏:‏ 59‏]‏، وقيل‏:‏ وقت أن يؤمر كل فريق بأن يتبع معبوده، ولا يبعد أن يقال‏:‏ إن في كل موقف من هذه المواقف يحصل شيء من ذلك إلى أن يصل إلى حدّ الله تعالى أعلم به إذ البياض والسواد من المشكك دون المتواطىء كما لا يخفى، وقرأ تبيض وتسود بكسر حرف المضارعة وهي لغة وتبياض وتسواد‏.‏

‏{‏فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ‏}‏ تفصيل لأحوال الفريقين وابتدأ بحال الذين اسودت وجوههم لمجاورته ‏{‏وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ‏}‏ وليكون الابتداء والاختتام بما يسر الطبع ويشرح الصدر ‏{‏أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكم‏}‏ على إرادة القول المقرون بالفاء أي فيقال لهم ذلك، وحذف القول واستتباع الفاء له في الحذف أكثر من أن يحصى، وإنما الممنوع حذفها وحدها في جواب أما، والاستفهام للتوبيخ والتعجيب من حالهم، والكلام حكاية لما يقال لهم فلا التفات فيه خلافاً للسمين، والظاهر من السياق والسباق أن هؤلاء أهل الكتاب وكفرهم بعد إيمانهم كفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الإيمان به قبل مبعثه وإليه ذهب عكرمة واختاره الزجاج والجبائي‏.‏ وقيل‏:‏ هم جميع الكفار لإعراضهم عما وجب عليهم من الإقرار بالتوحيد حين أشهدهم على أنفسهم ‏{‏أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ وروي ذلك عن أبيّ بن كعب، ويحتمل أن يراد بالإيمان الإيمان بالقوة والفطرة وكفر جميع الكفار كان بعد هذا الإيمان لتمكنهم بالنظر الصحيح والدلائل الواضحة والآيات البينة من الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعن الحسن أنهم المنافقون أعطوا كلمة الإيمان بألسنتهم وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم فالإيمان على هذا مجازي، وقيل‏:‏ إنهم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة، وروي ذلك عن عليّ كرم الله تعالى وجهه وأبي أمامة وابن عباس وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه‏.‏

‏{‏فَذُوقُواْ العذاب‏}‏ أي المعهود الموصوف بالعظم والأمر للإهانة لتقرر المأمور به وتحققه، وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون أمر تسخير بأن يذوق العذاب كل شعرة من أعضائهم نعوذ بالله تعالى من غضبه، والفاء للإيذان بأن الأمر بذوق العذاب مترتب على كفرهم المذكور كما يصرح به قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏ فالباء للسببية، وقيل‏:‏ للمقابلة من غير نظر إلى التسبب وليست بمعنى اللام ولعله سبحانه أراد ‏{‏بَعْدَ إيمانكم‏}‏ والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرار كفرهم أو على مضيه في الدنيا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ الله‏}‏ أي الجنة فهو من التعبير بالحال عن المحل والظرفية حقيقية، وقد يراد بها الثواب فالظرفية حينئذٍ مجازية كما يقال‏:‏ في نعيم دائم وعيش رغد وفيه إشارة إلى كثرته وشموله للمذكورين شمول الظرف ولا يجوز أن يراد بالرحمة ما هو صفة له تعالى إذ لا يصح فيها الظرفية ويدل على ما ذكر مقابلتها بالعذاب ومقارنتها للخلود في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ وإنما عبر عن ذلك بالرحمة إشعاراً بأن المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى فإنه لا ينال ما ينال إلا برحمته تعالى ولهذا ورد في الخبر «لن يدخل أحدكم الجنة عمله فقيل له‏:‏ حتى أنت يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ حتى أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته» وجملة هم فيها خالدون استئنافية وقعت جواباً عما نشأ من السياق كأنه قيل‏:‏ كيف يكونون فيها‏؟‏ فأجيب بما ترى وفيها تأكيد في المعنى لما تقدم، وقيل‏:‏ خبر بعد خبر وليس بشيء، وتقديم الظرف للمحافظة على رؤوس الآي، والضمير المجرور للرحمة، ومن أبعد البعيد جعله للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلافاً لمن قال به، وجعل الكلام عليه بياناً لسبب كونهم في رحمة الله تعالى وكون مقابلهم في العذاب كأنه قيل‏:‏ ما بالهم في رحمة الله تعالى‏؟‏ فأجيب بأنهم كانوا خالدين في الخيرات، وقرىء ابياضت واسوادت‏.‏